فصل: (سورة سبأ: آية 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وإلاّ فصُمتا: «إياكم والسّرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا» وقال عليه السلام: «ما عال من اقتصد».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عاصم بن خالد قال: أخبرني أبو بكر قال: حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل رفقه في معيشته».
{وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} وإنما جاز الجمع؛ لأنه يُقال: رزق السلطان الجند، وفلان يرزق عياله، كأنه قال: وهو خير المعطين.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يعني هؤلاء الكفّار {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} في الدُّنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول: {سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لك.
{أَنتَ وَلِيُّنَا} ربنا {مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك.
{أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} مصدقون.
قال قتادة: هو استفهام تقديره كقوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116].
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا} شفاعة ولا عذابًا، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدُّنيا فقد وردتموها.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا} يعني محمدًا عليه السلام {إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ وَقَالُواْ مَا هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} يعنون القرآن {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَا آتَيْنَاهُمْ} هؤلاء المشركين {مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يقرءونها {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأُمم رسلنا وتنزيلنا {وَمَا بَلَغُواْ} يعني هؤلاء المشركين {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} يعني مكذبي الأُمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري وتغيري عليهم، يحذر كفار هذه الأُمة عذاب الأُمم الماضية.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ} آمركم وأُوصيكم {بِوَاحِدَةٍ} بخصلة واحدة وهي {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} لأجل الله و {أَن} في محل الخفض على البيان من {بِوَاحِدَةٍ} والترجمة عنها {مثنى} يعني اثنين اثنين متناظرين، {وفرادى} واحدًا واحدًا متفكرين {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} جميعًا، والفكر: طلب المعنى بالقلب، فتعلموا، {مَا بِصَاحِبِكُمْ} محمد {مِّن جِنَّةٍ} جنون كما تقولون، و {مَآ} جحْد ونفي.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم} على تبليغ الرسالة والنصيحة {مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي ما ثوابي إلاّ على الله {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ} يرمي ويأتي {بالحق} ينزله من السماء إلى خير الأنبياء، {عَلاَّمُ الغيوب} رفع بخبر {إنّ}.
{قُلْ جَاء الحق} القرآن والإسلام، وقال الباقر: يعني السيف.
{وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ} يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبقَ له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
وقال الحسن: و {مَا يُبْدِىءُ} الباطل، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيرًا في الدنيا و {مَا يُعِيدُ} في الآخرة.
وقال قتادة: الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحدًا ولا يبعثه، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها بعود معه ويقول: {وَقُلْ جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} {جَاء الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ}.
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِي} وآخذ بجنايتي {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}.
{وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} يعني عذاب الدُّنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هو يوم بدر. الكلبي: من تحت أقدامهم.
وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْت} قال: خسف بالبيداء.
أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال: أخبرنا محمد بن جرير قال: حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سُفيان بن سعيد قال: حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب: «فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشًا إلى المشرق، وجيشًا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مئة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدىً من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل عليه السلام فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} فلا ينفلت منهم إلاّ رجلان: أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة».
فلذلك جاء القول: وعند جهينة الخبر اليقين.
وقال قتادة: ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وأُخذوا من مكان قريب؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
{وقالوا} حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس {آمَنَّا بِهِ وأنى} من أين {لَهُمُ التناوش} تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟ قال ابن عباس: يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: {التناؤش} بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يُقال: تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء.
قال الشاعر:
تمنى نئيشًا أن يكون أطاعني ** وقد حدثت بعد الأُمور أُمور

وقال آخر:
وجئت نئيشًا بعدها فاتك الخبر... وقرأ الباقون بغير همز، من التناول. يُقال: نشته نوشًا إذا تناولته.
قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشًا من علا ** نوشًا به تقطع أجواز الفلا

وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضًا وتدانوا، واختار أبو عبيد: ترك الهمز؛ لأنّ معناه: التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول: أنى لهم البعد {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟
{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي من قبل نزول العذاب {وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيد} يعني يرمون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالظنون لا باليقين، وهو قولهم: إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن، يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدُّنيا {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} أي أهل دينهم وموافقهم من الأُمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة سبأ: آية 24]:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)}.
أمره بأن يقررهم بقوله {مَنْ يَرْزُقُكُمْ} ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم اللّه. وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن اللّه رازقهم: لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماء وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ} حتى قال: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ثم قال {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادا وضرارا وحذارا من إلزام الحجة، ونحوه قوله عزّ وجلّ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياء لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ومعناه: وإنّ أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ: دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أنضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم اللّه الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب. ومنه بيت حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشر كما لخير كما الفداء

فإن قلت: كيف خولف بين حرفى الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبىّ: {وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين}.

.[سورة سبأ: الآيات 25- 26]:

{قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}.
هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين، وإن أراد بالإجرام: الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل: الكفر والمعاصي العظام. وفتح اللّه بينهم: وهو حكمه وفصله: أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار.

.[سورة سبأ: آية 27]:

{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاء كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
فإن قلت: ما معنى قوله {أَرُونِيَ} وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء باللّه، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. وكَلَّا ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام {أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش غلطهم وإن لم يقدروا اللّه حق قدره بقوله {هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى اللّه وحده. أو ضمير الشأن، كما في قوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.

.[سورة سبأ: آية 28]:

{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)}.
{إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالا من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالا من المجرور متقدّما عليه فقد أخطأ، لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقع به حتى بضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا بالخطإ الثاني، فلابد له من ارتكاب الخطأين.

.[سورة سبأ: الآيات 29- 30]:

{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}.
قرئ: {ميعاد يوم} و {ميعاد يوم} و {ميعاد يوما} والميعاد: ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو هاهنا الزمان. والدليل عليه قراءة من قرأ: {ميعاد يوم} فأبدل منه اليوم. فإن قلت: فما تأويل من أضافه إلى يوم، أو نصب يوما؟ قلت. أما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول: سحق ثوب، وبعير سانية. وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد، أعنى يوما أو أريد يوما من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يكون الرفع على هذا، أعنى التعظيم. فإن قلت: كيف انطبق هذا جوابا على سؤالهم؟ قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتا، لا استرشادا، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم. فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدّما عليه.

.[سورة سبأ: آية 31]:

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)}.
{الذي بين يديه} ما نزل قبل القرآن من كتب اللّه: يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب اللّه عز وجل في الكفر. فكفروا بها جميعا. وقيل: الذي بين يديه يوم القيامة. والمعنى: أنهم جحدوا أن يكون القرآن من اللّه تعالى، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب وَلَوْ تَرى في الاخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم، لرأيت العجيب، فحذف الجواب. والمستضعفون: هم الأتباع، والمستكبرون: هم الرءوس والمقدّمون.

.[سورة سبأ: الآيات 32- 33]:

{قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدادًا وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)}.
أولى الاسم أعنى نَحْنُ حرف الإنكار، لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم، كأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين {بَعْدَ إِذْ جاءكُمْ} بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا. فإن قلت: إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية، فلم وقعت إذ مضافا إليها؟ قلت: قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليها الزمان، كما أضيف إلى الجمل في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد، وحينئذ، ويومئذ، وكان ذلك أوان الحجاج أمير، وحين خرج زيد. لما أنكر المستكبرون بقولهم {أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ} أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ومعنى مكر الليل والنهار: مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى. وقرئ: {بل مكر الليل والنهار} بالتنوين ونصب الظرفين. و {بل مكرّ الليل والنهار} بالرفع والنصب. أي تكرّون الإغواء مكرّا دائبا لا تفترون عنه. فإن قلت: ما وجه الرفع والنصب؟ قلت: هو مبتدأ أو خبر، على معنى: بل سبب ذلك مكركم أو مكرّكم، أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك. والنصب على: بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار: فإن قلت: لم قيل: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} بغير عاطف، وقيل {وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}؟ قلت: لأن الذين استضعفوا مرّ أولا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأوّل فإن قلت: من صاحب الضمير في {وَأَسَرُّوا} قلت: الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين {فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي في أعناقهم، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال. وعن قتادة: أسروا الكلام بذلك بينهم. وقيل: أسروا الندامة أظهروها، وهو من الأضداد.